الأخبارمقالات

عودة الغطاء ….. في أواخر الشتاء

د مها محسن السقا ،،مدرس القانون التجاري بالمعهد العالي للحاسب الالي وإدارة الأعمال بالزرقاء

مشاعري متناقضة ، و متباينة ، أشعر ببعض القلق بالطبع ، في ظل الأزمة العاتية التي تجتاح العالم ، إلا أنه يغمرني الإحساس بدفئ و سلام نفسي غير مسبوق ….. في زمن الكورونا ؟؟ نعم في زمن الكورونا.
أخشى التصريح بالقول بأني أشعر أنها أسعد أيام حياتي حتى لا أتهم بالجنون ، أو الجحود و اللا مبالاة و عدم الإحساس بالأزمة .
و حتى لا تتسرع في الحكم على مشاعري يا عزيزي القارئ ، إسمح لي أن أسرد لك القصة بإيجاز ، تبدأ قصتي في منتصف تسعينات القرن الماضي ، و هي مرحلة الطفولة المبكرة ، حين بدأت عيناي ترى العالم من حولي ، عالم يغمره السعادة و الألفة و البهجة ، ممزوجا طبعا بمشاعر الطفولة الجميلة و اللعب و المرح و الإحساس بالأمن و الدفئ ، في كنف الأسرة ، داخل المنزل ، و في الشوارع المحيطة بالمنزل مع الأصدقاء و أبناء الجيران ، و في المدرسة ، وحتى خارج المحافظة – محل إقامتي – سواء في الرحلات المدرسية أو بصحبة الأسرة ، ثم مرحلة المراهقة و ما تمتاز به من جموح و جنون و مغامرة ، مغلفة أيضا بالدفئ و الإحساس بالأمن ، والإحساس بالإستقرار ، ثم بداية النضوج ، مرحلة الشباب و الدراسة الجامعية و العديد من الأصدقاء ، وآفاق جديدة من العالم الفسيح ، و طموحات و أحلام لا حصر لها ، مغلفة أيضا بذات الغلاف السحري الغير مرئي ، المحسوس و غير الملموس ، إنه الغطاء ، نعم الغطاء …..
الغطاء الأمني الذي يحقق لك الإحساس بالأمن داخل المنزل أو خارجه ، في الشارع أو المدرسة أو الجامعة أو مقر العمل ، في سفرك و ترحالك و تنقلاتك و كافة مناحي حياتك .
الغطاء الإجتماعي الذي يرسخ للعديد من القيم ، مثل إحترام الكبير – لسنه أو لمكانته أو مركزه – و العطف على الصغير ، و عدم التغول على الآخرين ، بحماية قانونية طبعا .
الغطاء الإقتصادي الذي يضمن لك توفير إحتياجاتك في أي وقت و يجنبك الشعور بأي أزمات سواء في الوقود أو الكهرباء أو الغذاء أو غيره .
ثم فجأة ، بدون أي مقدمات و بدون سابق إنذار – بالنسبة لي شخصيا – فوجئت بإنتزاع ذلك الغطاء من فوقي في شتاء ٢٠١١ ، ثم انقلبت المفاهيم رأسا على عقب ، و اختلفت تصنيفات الأمور ، مثلا كنا نصنف المنزل بأنه أكثر أمنا من الشارع ، و الشوارع القريبة أكثر أمنا من البعيدة ، و داخل المحافظة أكثر أمنا من خارجها و هكذا ، أصبح التصنيف معكوسا ، بمعنى أن المنزل أقل خطورة من الشارع و القريب أقل خطورة من البعيد و النهار أقل خطورة من الليل ، أصبحت طموحاتنا أن نعود إلى مساكننا سالمين ، أو نتمكن من تزويد السيارة بالوقود و ألا تنقطع الكهرباء ..
و ما زاد الطين بلة أن ذلك الغطاء تم انتزاعه عنوة في شهر يناير ، في عز الشتاء ، مما أدى إلي زيادة إحساسي بالبرد ، و انكماش جسدي و انحناء ظهري ، ولا أبالغ في القول أني ظللت أعاني من نزلات البرد و الزكام لسنوات بعد تلك الفاجعة لمجرد التعرض لنسمة هواء رقيقة من شباك مفتوح أو المشي داخل المنزل حافية القدمين ، بل أني أصبحت أصاب بنزلات البرد في عز الصيف ، و كنت أظن أن ذلك بسبب عطب ما حدث بجهازي المناعي لأسباب عضوية أجهلها ، و لكني أدركت الآن أنها كانت أسباب نفسية ، لإحساسي بافتقاد الغطاء الذي تم انتزاعه عني .
و لا أنكر أن الإحساس بالدفئ بدأ يعود و يتسلل إلى نفسي تدريجيا بمجرد تولي الرئيس عبد الفتاح السيسي لمقاليد الأمور ، و لكن بقى الحنين الجارف إلى الماضي ، ولا أدري هل هو الحنين إلى أشخاص كنا نحبهم و نحترمهم ، أو لسلطة كنا نهابها و نوقرها ، أم هو مجرد الحنين إلى الماضي الجميل ، و لكني واثقة أني ظللت أفتقد ذلك الغطاء لسنوات .
ثم بدأت أزمة الكورونا تجتاح العالم ، و فوجئت بعودة إحساسي بذلك الغطاء الجميل ، و للإنصاف ربما أفضل من ذي قبل ، نعم أفضل كثيرا من ذي قبل ، فلأول مرة منذ سنوات أشعر أني أعيش بدولة قوية ، ليست فقط قادرة على إدارة شئون مواطنيها فحسب ، و إنما تساعد دولا أخرى ” كبرى” تتعرض لهزات تعصف بها في مواجهة ذلك الوباء اللعين .
دولة لها جيش قادر على حمايتها و نجدتها من أي خطر خارجي أو داخلي ، و شرطة قادرة على السيطرة على الشوارع بمنتهي الحسم ، و النعومة و المرونة في ذات الوقت ، دولة بها مؤسسات قادرة على إدارتها و توفير إحتياجات مواطنيها تحت أي ظرف ، و لها نظام صحي قادر على علاج المرضى في كل مكان و في أي وقت .
ووزراء يظهرون في وسائل الإعلام يوميا للتواصل مع المواطنين و وتوعيتهم ، و التهدئة من روعهم على مدار الأزمة .
دولة لها قائد فذ ، ذو قلب رحيم ، و بصيرة نافذة ، و رؤية مستقبلية مستنيرة .
و لا أخفي أن ما زاد إستمتاعي بالأمر هو المكوث بالمنزل و إجراءات حظر الحركة ، فما أجمل إحساسي و أنا بالمنزل و أعلم أن الشوارع خالية إلا من رجال الشرطة أو المصرح لهم بالتواجد في الشارع تحت رقابة الشرطة .
أعلم أني قد أبدو مضطربة بعض الشيئ أو بمعنى أصح ” سايكو ” و لكني أراهن أن كل من يقرأ كلماتي حين يفتش في داخل نفسه لبضع دقائق سيجد نفس الشخص الذي أتحدث عنه .
لقد إكتشفت تفسيرا جديدا – شخصيا – لقول الله عز و جل ” إن مع العسر يسرا ” و كذلك قوله ” الذي أطعمهم من جوع و آمنهم من خوف ”
فأنا الآن أستمتع بالبقاء في المنزل و أحمد الله على وجودي على أرض مصر و أحمده أيضا على نعمة الغطاء الذي قدر سبحانه و تعالى أن يعود في أواخر الشتاء و بداية الربيع مع إنسحاب البرد و تسلل الدفئ ليترسخ إحساسي به .
أخيرا إستوى ظهري و اشتد عودي مع عودة غطائي الحبيب في أواخر الشتاء .
تحيا مصر

الوسوم

شاهد أيضاً

إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock