بقلم: دينا شرف الدين
في نظرة تأملية عميقة لهذا الكابوس الذي أصاب بني البشر أجمعين أثناء غفلتهم الطويلة و استغراقهم التام بمتاع الدنيا و أطماعها الدنيا التي لم تشفع لهم و لم تقيهم شر فيروس ضعيف لا يري حتي بالعين المجرده ،
لتري أعيننا و تدرك عقولنا أن الدنيا بملذاتها و شهواتها و أطماعها لا تساوي جناح بعوضة ،
و إن نظرنا لكوكب الأرض بأكمله من الفضاء الخارجي ، سنفرك أعيننا مرات و مرات لتستوعب عقولنا ما نراه درباً من دروب الخيال ، إذ نري الأرض تحولت إلي أرض أشباح خاوية علي عروشها ، بعد أن توقفت الحركة التي هي الحياة بالمدن العالمية الكبري لعدة أشهر ، تلك التي كانت تعج بالحياة آناء الليل و أطراف النهار ،
إذ رأينا مدينة نيويورك و بكين و شنجهاي و باريس و القاهرة ساكنة مستكينة خلت شوارعها و طرقاتها من الحركة بعد فرض الحظر بشكل جماعي بكافة بقاع الأرض .
فمنذ خلق الإنسان علي ظهر هذه الأرض لم يشهد حالة عامة تجمع بين الأبيض و الأسمر و الأصفر و الأسود ، و بين الغني و الفقير و الوزير و الغفير و بين دولة كبري تمتلك مقاليد أمور الدنيا و أخري نامية ،
حتي عندما مر سكان الأرض بمصائب جماعية كبري و أوبئة عظيمة حصدت مئات الآلاف من أرواح البشر بالقرون الماضية مثل الطاعون و الكوليرا و الإنفلونزا الأسبانية و غيرهم ، إذ كانت بقدر قسوتها تجتاح بقعاً بعينها من الأرض و تنتشر بدولاً محددة و لم تمتد أبداً لتنال من كل شبر بأرض الله الواسعة
كما أن العولمة بجانب ثورة الإتصالات بالعصر الحديث و خاصة بالسنوات الأخيرة قد كانت سبباً رئيسياً في انتشار الأخبار بأدق تفاصيلها من مشارق الأرض لمغاربها في ثوان معدودة ليصبح حجم التأثير و التأثر واحد في شتي دول العالم .
أي أن هناك و لأول مرة بتاريخ الإنسانية هماً واحداً يحمله بني البشر جميعاً علي اختلاف أشكالهم و ألوانهم و ألسنتهم و معتقداتهم ، و حلماً واحداً يحلم بتحققه الجميع و هو انقشاع هذه الغمة و معاناة مشتركة خرجت عن أطر الحياة الروتينية بمستلزماتها و تطلعاتها المعتادة و ما يصاحبها من ضجر و ملل و أحياناً اكتئاب يعاني منه الكثيرين و التي باتت درباً من دروب الرفاهية في زمن كان جميل نتمني عودته بأزماته مرة أخري .
فما كان يؤرق الإنسان بالماضي و يشكل عقبات و عثرات بحياته كالإرهاب و الحروب و تجبر دولاً تمتلك المال و السلطان علي أخري مستضعفة لتتسع الممالك و الإمبراطوريات و تتكدس الخزائن و تستعد ترسانات الأسلحة بأحدث الطرز ، لم يعد هو الهم الأكبر .
فلم يشعر يوماً إنسان علي وجه الأرض بمعاناة الآخر الحقيقية بأرض غير مستقرة ، إذ كان علي الأكثر يتعاطف معه لفترة وجيزة ثم يستغرق مرة أخري بأموره الخاصة
و لم تكف الحياة يوماً عن إسعاد أناس و إغراقهم بالنعم و إتعاس آخرين و حرمانهم منها ، لأنه قانون الحياة الذي لا يؤتمن ، فسرعان ما تدور الدوائر و تتبدل الأحوال بشكل لم يكن يتوقعه أحد ،
لكننا الآن نواجه هذا الهم الكوني البشري الذي أصاب به الله لحكمة لا نعلمها بني الإنسان ليترك خلف ظهره هموماً بدت له يوماً كبيرة و سرعان ما صغرت و تلاشت بعد أن أصابه هذا الهم الجماعي الشامل الفريد من نوعه .
تري هل يسفر هذا الكابوس المخيف عن جانب آخر أكثر إشراقاً بعد أن توحد بني الإنسان لأول مرة بتاريخ البشرية علي هم واحد و حلم بحلم واحد و سعي نحو تحقيق هدف واحد ؟
هل يتخلي هؤلاء الذين تكبروا في الأرض عن كبرهم بعد تجربة قاسية ما زلنا ننتظر المزيد من موجاتها و التي ستنقضي برحمة الله ، لتكون عبرة لمن يعتبر و موعظة لكل من له عقل برأسه و قلب ينبض بصدره ، أنه ليس لدي الإنسان خيار آخر عن تصحيح المسار الخاطئ و الإستيعاب الكامل لحقيقة واحدة أهم من التفنن في تطوير الأسلحة الذرية و الطاقة النووية لتسن كل دولة أسنانها تحفزاً لإلتهام الأخري حال إن استلزم الأمر ،
و يكف داعمي الإرهاب و ممولي الحروب و الخراب و يهدِئ أصحاب الهيمنة و التسلط من تطلعاتهم الغير محدودة ليقف الكل متأملاً مدركاً من خلال التجربة الموحدة التي اشترك بها الإنسان بشكل عام و يكتشف ما هو أهم من كل هذا الهراء الذي لا يثمن و لا يغني عن جوع بشهادة الواقع و هو :
“كوكب الأرض ”
هذا الذي فاض و ثار غضبه من شدة انتهاكات البشر و تطاولها علي طبيعته ،
ألم نري التغيرات الحادة بالمناخ التي قد تودي بسكان الأرض جميعاً لتكون سبباً مباشراً بهلاكهم ؟
هل ندرك أن الإهتمام القادم يتركز في المحافظة علي سلامة و استقرار هذا الكوكب و حفظ طبيعته و الكف عن انتهاكه ليظل صالحاً لمن يأتي بعدنا من أجيال تسلبها أطماعنا حق الحياة الآمنة التي كدنا نفقدها إلي أن يرث الله الأرض ؟
ألم نري بفترة وجيزة مجرد أشهر قليلة منذ انلاع الأزمة و اجتياح الجائحة لدول العالم أجمع أن معدلات و نسب التلوث البيئي قد تقلصت بشكل كبير ، كنتيجة مباشرة لتوقف بعض مسببات هذا التلوث كأبخرة المصانع و عوادم السيارات بعد فرض الحظر نصف اليوم فقط و إغلاق عدد من المصانع الكبيرة !
ألم تتكبر الولايات المتحدة التي تعد الدولة العظمي لترفض اتفاقية المناخ و تنسحب منها بغطرستها المعهودة كي لا تتنازل عن سنتاً واحداً من ثرواتها الإقتصادية و لو علي حساب تلوث البيئة و الإحتباس الحراري نظراً لتغيرات المناخ المتزايدة و التي أضرت بالطبيعة و قلصت نسب الأكسجين و انقرضت علي إثرها سلالات بعينها من ممكلة الحيوان كما تضررت صحة الإنسان كتبعة من تبعات هذا التلوث ،
تلك التي لا يكترث لها جبابرة الأرض و لا تتبدل مخططاتهم باستمرار السيطرة و التربح ، و التي تتزايد و تتضخم كلما مرض البشر و قتلوا بالحروب لتذدهر تجارتي السلاح و الدواء !
هل سيظل الإنسان متشبساً بأطماع الدنيا مستمراً بغيه بعد انكشاف الأزمة و نسيانها كعادته ، أم أن اختبار الكورونا الذي أرسل به الله رسالة موحدة شديدة اللهجة لبني البشر سيسفر عن جانب إيجابي مشرق تتحول به الأرض التي لم ينقطع بها صوت الرصاص و القنابل يوماً إلي المدينة الفاضلة التي يترك فيها البشر أطماعهم و يتخلوا عن أنانيتهم و يتحسبوا جيداً لأزمات أخري قد تحل كعواقب محتملة لما اقترفت أياديهم ،
ليحفظوا أمن و سلامة هذة الأرض التي يسكنونها ؟