كتب: أحمد رأفت
اثناء رحلتي الى منزلي وعند استقلالي للقطار البسيط، قطار الغلابة كما نطلق عليه نحن ركاب القطار، والذى يحمل الكثير والكثير من الالام والهموم اكثر من مجرد وسيلة نقل تحمل ركاباً.
وأنا جالساً وسط مجموعة متنوعة من فئات المجتمع البسيط، ما بين موظف كادح مثقل بالتعب ويحمل على عاتقيه الكثير من الاعباء.
وما بين رجال ونساء ها هنا سيدة بسيطة تستيقظ من نومها فجرا لتحصد ثمار ارضها وتقوم بتعبئته والخروج مبكرا تاركه خلفها اطفال ايتام ينتظرون عودتها في نهاية اليوم لتائتي ببضع الجنيهات وتحمل معها لابناءها حلوى البسطاء (العسلية) وهي اكتر المنتجات رواجا فى القطارات واقلها سعراً لكى تستطيع ادخال السعاده على ابناءها.
وهنا ايضا يستقل القطار رجلاً مسناً يرتدى نظارة عفا عليها الزمن يلصمها بالشريط اللاصق ويتعكز على عجازه القديم الذى كانت تملئه النقوش ومحيت معالمه مع الزمن، وكان الرجل جالساً ينظر حوله يتفحص الوجوه وكأنه يبحث فيها عن عزيز،، عن ابن غير بار ترك والده يتخبط مع الزمن وسنواته او عن ابنة تزوجت ولم تعد تهتم او تتذكر اهلها، كانت نظرات الرجل تحمل شعورا مختلفة مالين نظرات اشتياق ونظرات حصرات وألم وعينه منطفئه وكأنة سئم الحياة وينتظر وصوله لاخر محطة بحياته وليس وصول القطار للمحطة فحسب.
واخيرا الشاب مفتول العضلات المزارع القوى صاحب الفكر الحديث كما يعتقد فى طيات تفكيره والذى غادر ارضه وترك بيته البسيط وخاض معركة المدينة، واندرج وسط اهلها وعاش فيها كالغريب يصحو ليذهب لعمله ويعود لياكل وينام وفى نهاية كل اسبوع يعود الفتى المغوار لقريته ليجلس على المقاهي ويحكى عن احلام كان يتمنى تحقيقها، ويروي عن حياه الرفاهية والخروج والتنزه التى حرم منها حتى يتسنى له توفير متطلبات منزله واولاده عائدا لهم وهو مثقول الكتفين من حرب ذهنية وبدنية خاضها لمده اسبوع متواصل، ولا أخفى عليكم اننى من تلك الفئة البسيطه التى تحمل الكثير والكثير من الآلام لذلك أستطيع ان التمس شعور غالب المستقلين للقطار.
كنت انظر اليهم ملتمساً قلوبهم وأكاد أسمع تنهيد صدورهم تنفيسا عن مافي داخلهم، ويرتسم على وجهى ابتسامه، ابتسامة خجل منهم وعليهم.
وهنا بدء حواراً دار بكلمة مابين تلك الشخصيات، عندما تحدث العجوز المثقف بعد فقدان الأمل فى البحث عن المجهول، عندما بدء بحديث كان الهدف منه استخراج الابتسامات من تلك الوجوه التى طمست معالمها بسبب الهم والحزن والشقاء، حديث يظهر أنه شيق لهؤلاء الشخصيات.
يقول الرجل أن هناك جزار فى مدينة نصر وهي إحدى مدن القاهرة موضحا لهم أنها تعتبر مدينة يسكنها فئة أعلى بسيطا من مناطق الغلابة ويسكنها أغنياء، متابعاً أن هذا الجزار كان يذبح الحمير ويبيع لحومها للناس، وسرعان ما ألتفت الركاب للنظر بإهتمام حول حديث الرجل لاستكمال الحكاية وسط اندهاش الجالسين، وهم يحوقلون ويستغفرون الله من فعل الغش والخيانة، وامتلكهم شعور بالرضا وبالتوكل يحمل في طياته اليقين بأن الله عظيم وأنه دائما مع الفقراء ليجعل الله لهم من الأكل والشرب والملبس ما هو حلال بين يبعد عنهم برحمته جشع تلك الجزارين.
وهنا ردت سيدة بسيطة وهي أم لأطفال أيتام تتحدث ببساطة المرأة المصرية الأصيلة وحمدت الله قائلة؛ أننا والحمد لله لم نتذوق اللحوم منذ شهور….
وهنا تلاشت ابتسامتي وتغيرت معالم وجهى حزنا على كلماتها البسيطة التى كادت ان تقتلني حزنا على حالها وهي تتحدث بنبارات الحسرة في صوتها.
وعم الصمت للحظة وبحكمة كبار السن تحدث العجوز ثانية ليخرج تلك السيدة ولو لانتهاء الرحلة حتى تصل لمحطة النزول ليغير من الحاله التى تملكتها عندما تقلبت عليها الالام.
ليخرج العجوز بكلماته الضاحكة ويقول اننا جميعاً اكلنا من لحوم الحمير .
وما بين تلك الاحاديث التى يتخللها البسمة البسيطة تارة والحزن تارة على ما نحن فيه.
الا وهناك من ينظر من شباك القطار ويسرح فيما ينتظره بمنزله عيناه تترقب الطريق يتلفت من لحظة لأخرى ويرسم على وجهه إبتسامة على ما يسمعه منا وتعود انظاره للخارج تائهة حائرة وكأن نفسه تحدثه اننا نقترب وتزداد ملامحه قلقا مع اقتراب الوصول وكأنه يهرب من ما ينتظره، كابن ينتظر مصروفات دراسية، او ابنة تنتظر الاب العائد من رحله كفاحه فى عمله ليشترى لها الملابس الجديدة، أو زوجة هى تعلم ما به ولكن ما بيدها حيلة لطلب الاقساط المتأخرة من جهاز ابنتها الكبرى أو غير ذلك.
ومر الوقت بطيئا وزالت ابتسامتي وازداد استيائى وتملك الحزن قلبى على رحلة اخوضها كل يوم ولكن ولاول مرة أشعر بثقل تلك الرحلة لما فيها من الآلام، وتباطئت نبضات قلبي وكادت ان تتلاشى نبضه تلو الاخرى كنبض من حولى من الركاب.
نبض الغلابة …. وهنا وصلت لمحطة النزول تاركا خلفي بسطاء الوطن الذين لا يحملون فى قلوبهم ضغينه وان كل ما يجمع بينهم هو نبض القلوب
تابعونا في سلسلة نبض الغلابة .. يرويها من الواقع: أحمد رأفت