شكلت جائحة كورونا باعثاً كبيراً لتطبيق النداءات الكثيرة التي سبقتها لتطبيق التعليم الالكتروني (عن بعد)،
والخروج من بوتقة التعليم الوجاهي إلى التعليم الافتراضي فكان التحول الكبير على مختلف الأصعدة رقمياً،
كنتيجة اضطرارية (قهرية) أكثر من كونها قناعات تكنولوجية، تواكب تطورات العصر.
وأياً كانت الخطوات التي اعتمدتها المحاضن التربوية والمؤسسات التعليمية لاعتماد الوسيط التكنولوجي بكامل
منصات كـ مناص، إلا أنه هناك لعنصر (المفاجأة) في التطبيق مجموعة من الانعكاسات السلبية والايجابية،
سيبقى أثرها دافعاً على حياة الناس مستقبلاً ما لم تؤخذ على محمل الجد.
وقبل الحديث عن هذه الانعكاسات، يجب ألا ننسى أن هناك أطفالاً كانوا يرتادون المدارس يتفاعلون مع زملاء
لهم ويكوّنون صداقات، يتعلمون بالقدوة، يقلدون ويحاكون ويبدعون، يخفقون في سياق اجتماعي كامل
بتعليماته وأنظمته، فما مصيرهم اليوم؟ هل ما يحدث لهم اليوم يؤكد فكرة مفادها : أن المدرسة لم تكن قائمة
بدورها، وأن غياب بعدها المكاني والاعتباري لم يؤثر في حياتنا؟ وعلى صعيد الجامعات التي لم تكن تعتمد
التعليم عن بعد كنظام لها والتي وجدت في اندماجها وانخراطها في سياق التعامل مع المرحلة فرصة لاستثمار
المشوه، وإظهار قدرتها على استخدام أنظمة إدارة التعلم Learning Management systems في إطار
تنافسي تسويقي ليس له علاقة بالذكاء الصناعي Artificial Intelligence أو إنترنت الأشياء Internet of
things ، يبرز السؤال: أي المبررات كان لهذا الاندماج؟ ما السبب الحقيقي وراء هذه الاستجابة السريعة (غير
المحسوبة)؟ وللإجابة عن هذه الأسئلة، نرى أنه من المؤكد أن الأزمة التي واجهت قطاع التعليم بسبب تفشي
فيروس كورونا دفعت التعليم الالكتروني نحو المواجهة، فغدا خياراً لا بديل عنه سواء توفرت البنى التحتية أم لم
تتوفر، لتبرز ما لا يحمد عقباه مستقبلاً، فعلى سبيل المثال، أغلب المحتوى التعليمي الذي يقدم إلكترونيا، هو
محتوى أصم لا يسمح بمشاركة المتعلمين، كما أنه لا يغطي أنماط التعليم المختلفة: (السمعي- البصري-
الحركي-الوجداني- التعلم بالكتابة…)، ولا يظهر طبيعة العلاقة الإنسانية والاجتماعية بين المعلم والمتعلم،
الأمر الذي سيؤثر على إنسانية التربية من خلال الالتزام بحرفية التعليمات والتنفيذ دون نقاش.
إن الانطلاق الوحشي نحو الاستجابة للتعليم الالكتروني، والتي تجاهلت كل مستويات الثقافة والقناعة
والإمكانيات للفئات المستهدفة من حيث توفر التكنولوجيا وتطبيقاتها ومستويات التعامل معها لن يزيد إلا من
تكريس فكرة (الكرتونة) وهي أن يحصل الطالب على شهادة دون فائدة أو إفادة.
قد تتلاشى الأمية الرقمية بالتكرار، تلاشياً مبني على القهر وعلى الاستعراض الفارغ الذي يأتي في إطار
التسويق دون دراسة لاتجاهات أطراف العملية التعليمية الأخرى، بنتاج أحادي الجانب قد يدفعنا في فترات
قادمة إذا ما استمرت الجائحة إلى (نخبوية التعليم العالي) القائمة على مدى توافر التكنولوجيا وإمكاناتها.
لست ضد التعليم الالكتروني على الإطلاق، وكنت ولا زلت من المشجعين على أن يكون رديفاً التعليم الوجاهي
ولكن ليس بديلاً عنه، وحيث أن المرحلة تطلبت أن يكون بديلاً، في التخطيط المناسب يجب أن يخرج من دائرة
المصلحة المؤسسية إلى الإنسانية، والموازنة من حيث الكم والنوع لمحتوى التعليم بما يناسب الإمكانات
المادية والثقافية والتكنولوجية لأطراف العملية التعليمية، خاصة بعد أن كشفت التجربة عمق أزمة التعليم
الالكتروني وضعف جاهزيته على مستوى الموارد المادية والبشرية، فمن حيث تكامل الأدوار، كشفت الأزمة
عمق المشكلة لدى العائلات وأولياء الأمور، في الوقت الذي أشارت فيه الدراسات والإحصائيات أن ما نسبته
33% على الأقل من الطلبة لا يملكون مكونات التعليم الافتراضي المادية.
ولعله من المحمود الإبقاء على حماسية المشاركة بعد انقطاع أكثر 1.6 مليار طالب عن التعليم في 160 دولة
أي ما يقارب من 80% من الطلبة الملتحقين بالتعليم على مستوى العالم بتسريع خطط التعليم الافتراضي،
والخروج من دائرة التجمل إلى دائرة المواجهة الحقيقية والاعتراف بالتقصير كنقطة لتضييق الفجوة لا
للاستعراض الفارغ، فالأمر يستلزم تقييم ومراجعة شاملة لمحتوى المناهج وآليات التقييم، وتدريب المعلمين
وأعضاء هيئة التدريس على استخدام التطبيقات التكنولوجية والمهارات الأساسية لاستخدام الأجهزة الرقمية.
إن الصعوبات التي قد يواجهها الطلبة في التعامل مع التعليم عن بعد، ستفرز تشوهاً في مستوى المواطنة
الرقمية، وهو ما ألاحظه في التعامل مع طلابي حالياً، فالأمر ليس مرتبطاً بمستوى التربية بقدر ما هو مرتبط
بالضغط النفسي الناجم عن قلة الإمكانات المادية، وتدني مستوى البنية التحتية للاتصالات والانترنت، ناهيك
عن ارتفاع مستوى الأمية الإلكترونية في مجال استخدام التطبيقات الإلكترونية البسيطة. إن ما يجري اليوم
سيغير وجه التعليم بأي حال من الأحوال، وإن بقيت الجامعات على حالها من حيث معنوية الاهتمام، وخصخصة
الكفاءات، والاستثمار في المباني والمساحات الخضراء على حساب الطالب الساعي للتعليم، والأستاذ الكفء
المهمش، فستكون معول هدم للإنسان، وليس مصنعاً للموارد.